الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***
{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)} قوله تعالى: {وقالوا} يعني المشركين {هذه أنعام وحرث حجر} أي حرام وأصله المنع لأنه منع من الانتفاع منه بتحريمه. وقيل: هو من التضييق والحبس لأنهم كانوا يحبسون أشياء من أنعامهم وحروثهم لآلهتهم. قال مجاهد: يعني بالأنعام البحيرة ولاسائبة والوصيلة والحامي {لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم} يعني يأكلها خدام الأصنام والرجال دون النساء: {وأنعام حرمت ظهورها} يعني الحوامي وهي الأنعام التي حموا ظهورها عن الركوب فكانوا لا يركبونها {وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها} يعني لا يذكرون اسم الله عليها عند الذبح وإنما كانوا يذكرون عليها أسماء الأصنام: وقيل معناه لا يحجون عليها ولا يركبونها لفعل الخير لأنه لما جرت العادة بذكر الله على فعل كل خير ذم هؤلاء على ترك فعل الخير {افتراء عليه} يعني أنهم كانوا يفعلون هذه الأفعال ويزعمون أن الله أمرهم بها وذلك اختلاق وكذب على الله عز وجل: {سيجزيهم بما كانوا يفترون} فيه وعيد وتهديد لهم على افترائهم على الله الكذب. قوله عز وجل: {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا} يعني نساءنا، قال ابن عباس وقتادة والشعبي: أراد جنة البحائر والنساء جميعاً وهو قوله تعالى: {وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء} ودخلت الهاء في خالصة للتأكيد والمبالغة، كقولهم رجل علاَّمة ونسَّابه. وقال الفراء: دخلت الهاء لتأنيث الأنعام لأن ما في بطونها مثلها فأنث بتأنيثها. وقال الكسائي: خالص وخاصة واحد مثل وعظ وموعظة وقيل: إذا كان اللفظ عبارة عن مؤنث جاز تأنيثه على المعنى وتذكيره على اللفظ كما في هذه الآية فإنه أنث خالصة على المعنى وذكر ومحرم على اللفظ {سيجزيهم وصفهم} يعني سيكافئهم وصفهم على الله الكذب {إنه حكيم عليم} فيه وعيد وتهديد يعني أنه تعالى حكيم فيما يفعله عليم بقدر استحقاقهم.
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)} قوله تعالى: {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم} قال عكرمة: نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر وكان الرجل يقاضي الرجل على أن يستحيي جارية ويئد أخرى فإذا كانت الجارية التي توأد غدا الرجل أو راح من عندها امرأته وقال لها أنت عليّ كظهر أمي إن رجعت إليك ولم تئديها فتخدّ لها في الأرض خداً وترسل إلى نسائها فيجتمعن عندها ثم يتداولنها بينهن حتى إذا أبصرته راجعاً دستها في حفرتها ثم سوت عليها التراب. وقال قتادة: هذا من صنيع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل ابنه مخافة السبي والفاقة ويفدو كلبه. أما سبب الخسران المذكور في قوله قد خسر الذين قتلوا أولادهم: أن الولد نعمة عظيمة أنعم الله بها على الوالد فإذا تسبب الرجل في إزالة هذه النعمة عنه وإبطالها فقد استوجب الذم وخسر في الدنيا والآخرة، أما اخسارته في الدنيا فقد سعى في نقص عدده وإزالة ما أنعم الله به عليه. وأما خسارته في الآخرة فقد استحق بذلك العذاب العظيم. وقوله {سفها بغير علم} يعني فعلوا ذلك للسفاهة وهي الخفة والجهالة المذومومة وسبب حصول هذه السفاهة هو قلة العلم بل عدمه لأن الجهل كان هو الغالب عليهم قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا سموا جاهلية وقوله تعالى: {وحرموا ما رزقهم الله} يعني البحائر والسوائب والحامي وبعض الحروث وبعض ما في بطون الأنعام، وهذا أيضاً من أعظم الجهالة {افتراء على الله} يعني أنهم فعلوا هذه الأفعال المذمومة وزعموا أن الله أمرهم بذلك وهذا افتراء على الله وكذب وهذا أيضاً من أعظم الجهالة لأن الجرأة على الله والكذب عليه من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر ولهذا قال تعالى: {قد ضلوا} يعني في فعلهم عن طريق الحق والرشاد {وما كانوا مهتدين} يعني إلى طريق الحق والصواب في فعلهم (خ). عن ابن عباس قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم إلى قوله {قد ضلوا وما كانوا مهتدين}. قوله عز وجل: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات} يعني والله الذي ابتدع وخلق جنات يعني بساتين معروشات {وغير معروشات} يعني مسموكات مرتفعات وغير مرتفعات وأصل العرش في اللغة شيء مسقف يجعل عليه الكرم وجمعه عروش يقال عرشت الكرم أعرشه عرشاً وعرشته تعريشاً إذا جعلته كهيئة السقف واعترش العنب العريش إذا علاه وركبه. واختلفوا في معنى قوله {معروشات وغير معروشات} فقال ابن عباس: المعروشات ما انبسط على الأرض وانتشر مما يعرش مثل الكرم والقرع والبطيخ ونحو ذلك وغير معروشات ما قام على ساق ونسق كالنخل والزرع وسائر الشجر. وقال الضحاك: كلاهما في الكرم خاصة لأن منه ما يعرش ومنه ما لم يعرش بل يلقى على وجه الأرض منبسطاً، وقيل: المعروشات ما غرسه الناس في البساتين واهتموا به فعرشوه من كرم وغيره وغير معروشات وهو ما أنبته الله في البراري والجبال من كرم أو شجر {والنخل والزرع} يعني وأنشأ النخل والزرع وهو جميع الحبوب التي تقتات وتدخر {مختلفاً أكله} يعني به اختلاف الطعوم في الثمار كالحلو والحامض والجيد والرديء ونحو ذلك {والزيتون والرمان متشابهاً} يعني في المنظر {وغير متشابه} يعني في المطعم كالرمانتين لونهما واحد وطعمهما مختلف، وقيل: إن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان ولكن ثمرتهما مختلفة في الجنس والطعم {كلوا من ثمره إذا أثمر} لما ذكر ما أنعم الله به على عباده من خلق هذه الجنات المحتوية على أنواع من الثمار ذكر ما هو المقصود الأصلي وهو الانتفاع بها، فقال تعال: كلوا من ثمره إذا أثمر، وهذا أمر إباحة. وتمسك بهذا بعضهم فقال: الأمر قد يرد إلى غير الوجوب لأن هذه الصيغة مفيدة لدفع الحجر. وقال بعضهم: المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الحق لأنه تعالى لما أوجب الزكاة في الحبوب والثمار كان يحتمل أن يحرم على المالك أن يأكل منها شيئاً قبل إخراج الواجب فيها لمكان شركة الفقراء والمساكين معه فأباح الله أن يأكل قبل إخراجه لأن رعاية حق النفس مقدمة على رعاية حق الغير وقيل إنما قال تعالى كلوا من ثمره إذا أثمر بصيغة الأمر ليعلم أن المقصود من خلق هذه الأشياء التي أنعم الله بها على عباده وهو الأكل {وآتوا حقّه يوم حصاده} يعني يوم جذاذه وقطعه. واختلفوا في هذا الحق المأمور بإخراجه، فقال ابن عباس وأنس بن مالك: هو الزكاة المفروضة. وهذا قول طاوس والحسن وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب ومحمد بن الحنفية وقتادة. قال قتادة في قوله {وآتوا حقه يوم حصاده} أي من الصدقة المفروضة ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم سن فيما سقت السماء والعين السائحة أو سقاه النيل والندى أو كان بعلاً العشر كاملاً وإن سقي بنضح أو سانية فتصف العشر وهذا فيما يكال من الثمرة أو الزرع وبلغ خمسة أوسق وذلك ثلمثائة صاع فقد وجب فيها حق الزكاة وفي رواية عن ابن عباس في قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} قال هو العشر ونصف العشر. فإن قلت على هذا التفسير إشكال وهو أن فرض الزكاة كان بالمدينة وهذه السورة مكية فكيف يمكن حمل قوه وآتوا يوم حصاده على الزكاة المفروضة، قلت: ذكر ابن الجوزي في تفسيره عن ابن عباس وقتادة: إن هذه الآية نزلت بالمدينة فعلى هذا القول تكون الآية محكمة نزلت في حكم الزكاة وإن قلنا إن هذه الآية مكية تكون منسوخة بآية الزكاة، لأنه قد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخت آية الزكاة كل صدقة في القرآن وقيل في قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} أنه حق سوى الزكاة فرض يوم الحصاد وهو إطعام من حضر وترك ما سقط من الزرع والثمر، وهذا قول علي بن الحسن وعطاء ومجاهد وحماد. قال إبراهيم: هو الضغث، وقال الربيع: هو لقاط السنبل، وقل مجاهد: كانوا يجيئون بالعذق عند الصرام فيأكل منه من مر. وقال يزيد بن الأصم: كان أهل المدينة إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيعلقونه في جانب المسجد فيجيء المسكين فيضربه بعصاه فما سقط منه أكله فعلى هذا القول هل هذا الأمر أمر وجوب أو استحباب وندب فيه قولان: أحدهما: أنه أمر وجوب فيكون منسوخاً بآية الزكاة. وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي هل علي غيرها قال إلا أن تطوع. والقول الثاني: إنه أمر ندب واستحباب فتكون الآية محكمة، وقال سعيد بن جبير: كان هذا حقاً يؤمر بإخراجه في ابتداء الإسلام ثم صار منسوخاً بإيجاب العشر، ولقول ابن عباس: نسخت آية الزكاة كل صدقة في القرآن واختار هذا القول الطبري وصححه واختار الواحدي والرازي القول الأول وصححاه. فإن قلت: فعلى القول الأول كيف تؤدى الزكاة يوم الحصاد والحب في السنبل وإنما يجب الإخراج بعد التصفية والجفاف، قلت: معناه قدروا أداء إخراج الواجب منه يوم الحصاد فإنه قريب من زمان التنقية والجفاف ولأن النخل يجب إخراج الحق منه يوم حصاده وهو الصرام والزرع محمول عليه إلا أنه لا يمكن إخراج الحق منه إلا بعد التصفية. وقيل معناه وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده بعد التصفية، وقيل: إن فائدة ذكر الحصاد أن الحق لا يجب بنفس الزرع وبلوغه إنما يجب يوم حصاده وحصوله في يد مالكه لا فيما يتلف من الزرع قبل حصوله في يد مالكه. قوله تعالى: {ولا تسرفوا} الإسراف تجاوز الحد فيما يفعله الإنسان وإن كان في الإنفاق أشهر وقيل السراف تجاوز ما حد لك وسرف المال إنفاقه في غير منفعة. ولهذا قال سفيان: ما أنفقت في غير طاعة الله فهو سرف وإن كان قليلاً. قال ابن عباس في رواية عنه: عمد ثابت بن قيس بن شماس فصرم خمسمائة نخلة فقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيء فأنزل الله هذه الآية {ولا تسرفوا} قال السدي: معناه لا تعطوا أموالكم وتقعدوا فقراء. قال الزجاج فعلى هذا لو أعطى الإنسان كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئاً فقد أسرف لأنه قد صح في الحديث «أبدأ بمن تعول» وقال سعيد بن المسيب: معناه لا تمنعوا الصدقة فتأويل الآية على هذا القول لا تجاوزوا الحد في البخل والإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة وهذان القولان يشتركان في أن المراد من الإسراف مجاوزة الحد إلا أن الأول في البذل والإعطاء والثاني في الإمساك والبخل، وقال مقاتل: معناه لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام وهذا القول أيضاً يرجع إلى مجاوزة الحد لأن من شرك الأصنام في الحرث والأنعام فقد جاوز ما حد له. وقال الزهري: معناه لا تنفقوا في معصية الله عز وجل. وقال مجاهد: الإسراف ما قصرت به في حق الله تعالى ولو كان أبو قبيس ذهباً فأنفقته في طاعة الله لم تكن مسرفاً ولو أنفقت درهماً أو مداً في معصية الله كنت مسرفاً. وقال ابن زيد: إنما خوطب بهذا السلطان نهي أن يأخذ من رب المال فوق الذي ألزم الله ماله. يقول الله عز وجل للسلاطين: لا تسرفوا أي لا تأخذوا بغير حق فكانت الآية بين السلطان وبين الناس. وقوله تعالى: {إنه لا يحب المسرفين} فيه وعيد وزجر عن الإسراف في كل شيء لأن من لا يحبه الله فهو من أهل النار.
{وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)} {ومن الأنعام} يعني وأنشأ من الأنعام {حمولة} وهي كل ما يحمل عليها من الإبل {وفرشاً} يعني صغار الإبل التي لا تحمل. قال ابن عباس: الحمولة هي الكبار من الإبل والفرش هي الصغار من الإبل، وقال في رواية أخرى عنه ذكرها الطبري. أما الحمولة: فالإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عيه وأما الفرش فالغنم. وقال الربيع بن أنس: الحملة: الإبل والبقر والفرش والمعز والضان فالحمولة كل ما يحمل عليها من الأنعام والفرش ما لا يصلح للحمل سمي فرشاً لأنه يفرش للذبح ولأنه قريب من الأرض لصغره {كلوا مما رزقكم الله} يعني كلوا مما أحله الله لكم من هذه الأنعام والحرث {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} يعني لا تسلكوا طريقه وآثاره في تحريم الحرث والأنعام كما فعله أهل الجاهلية {إنه} يعني الشيطان {لكم عدو مبين} يعني أنه مبين العداوة لكم ثم بين الحمولة والفرش فقال عز وجل: {ثمانية أزواج} يعني وأنشأ من الأنعام ثمانية أزواج يعني ثمانية أصناف والزوج في اللغة الفرد إذا كان معه آخر من جنسه لا ينفك عنه فيطلق لفظ الزوج على الواحد كما يطلق على الاثنين فيقال للذكر زوج وللأنثى زوج {من الضأن اثنين} يعني الذكر والانثى والضأن ذوات الصوف من الغنم والواحد ضائن والأنثى ضائنة والجمع ضوائن {ومن المعز اثنين} يعني الذكر والأنثى والمعز ذوات الشعر من الغنم والواحد ماعز والجمع معزى: {قل آلذكرين حرم أم الأنثيين} استفهام إنكار، أي: قل يا محمد لهؤلاء الجهلة الذكرين من الضأن والمعز حرم عليكم أم الأنثيين منهما، فإن كان حرم الذكرين من الغنم فكل ذكورها حرام وإن كان حرم الأنثيين منهما فكل إناثها حرام {أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين} يعني أم حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الضأن والمعز فإنها لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى {نبئوني} أي أخبروني وفسروا لي ما حرمتم {بعلم إن كنتم صادقين} يعني أن الله حرم ذلك عليكم.
{وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)} {من الإبل اثنين ومن البقر اثنين} وهذه أربعة أزواج أخر بقية الثمانية {قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين} وتفسير هذه الآية نحو ما تقدم وفي هاتين الآيتين تقريع وتوبيخ من الله تعالى لأهل الجاهلية بتحريمهم ما لم يحرمه الله وذلك أنهم كانوا يقولون: هذه أنعام وحرث حجر. وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وكانوا يحرمون بعضها على الرجال والنساء وبعضها على النساء دون الرجال كما أخبر الله عنهم في كتابه فلما جاء الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم وكان خطيبهم مالك بن عوف الجشمي فقال: يا محمد بلغنا إنك تحرم أشياء مما كان أباؤنا يفعلونه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد حرمتم أصنافاً من النعم على غير أصل وإنما خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع فمن أين جاء هذا التحريم من قبل الذكر أم من قبل الأنثى؟ فسكت مالك بن عوف وتحير ولم يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم «يا مالك ألا تتكلم»؟ فقال: بل أنت تتكلم وأسمع منك، قال المفسرون: فلو قال جاء التحريم من قبل الذكر بسبب الذكورة وجب أن يحرم جميع الذكور ولو قال بسبب الأنوثة وجب أن يحرم جميع الإناث وإن كان باشتمال الرحم عليه فينبغي أن يرحم الكل لأن الرحم لا يشتمل إلا على ذكر أو أثنى. وأما تخصيص التحريم بالولد الخامس أو السابع بالبعض دون البعض فمن أين ذلك التحريم؟ فاحتج الله على بطلان دعواهم بهاتين الآيتين وأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن كل ما قالوه من ذلك وأضافوه إلى الله فهو كذب على الله وأنه لم يحرم شيئاً من ذلك وأنهم اتبعوا في ذلك أهواءهم وخالفوا أمر ربهم. وذكر الإمام فخر الدين في معنى الآية وجهين آخرين ونسبهما إلى نفسه، فقال: إن هذا الكلام ما ورد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم بل هو استفهام على سبيل الإنكار يعني إنكم لا تقرون بنبوة نبي ولا تعترفون بشريعة شارع فكيف تحكمون بأن هذا يحل وهذا يحرم. والوجه الثاني: إنكم حكمتم بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي مخصوصاً بالإبل فالله تعالى بيّن أن النعم عبارة عن هذه الأنواع الأربعة وهي: الضأن والمعز والبقر والإبل فلم لم تحكموا بهذه الأحكام في هذه الأنواع الثلاثة وهي الضأن والمعز والبقر فكيف خصصتم الإبل بهذا الحكم دون هذه الأنواع الثلاثة. قوله تعالى: {أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا} يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهؤلاء الجهلة من المشركين الذين يزعمون أنالله حرم عليهم ما حرموا على أنفسهم من الأنعام والحرث هل شاهدتم الله حرم هذا عليكم ووصاكم به فإنكم لا تقرون بنبوة أحد من الأنبياء فكيف تثبتون هذه الأحكام وتنسبونها إلى الله عز وجل. ولما احتج الله عليهم بهذه الحجة وبين أنه لا مستند لهم في ذلك قال تعالى: {فمن أظلم ممن أفترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم} يعني فمن أشد ظلماً وأبعد عن الحق ممن يكذب على الله ويضيف تحريم ما لم يحرمه الله إلى الله ليضل الناس بذلك ويصدهم عن سبيل الله جهلاً منه إذ ليس هو على بصيرة وعلم في ذلك الذي ابتدعه ونسبه إلى الله ويقول إن الله أمرنا بهذا، قيل: أراد به عمرو بن لحي لأنه أول من بحر البحائر وسيب السوائب وغير دين إبراهيم عليه السلام ويدخل في هذا الوعيد كل من كان على طريقته أو ابتدع شيئاً لم يأمر الله به ولا رسوله ونسب ذلك إلى الله تعالى لأن اللفظ عام فلا وجه للتخصيص فكل من أدخل في دين الله ما ليس فيه فهو داخل في هذا الوعيد {إن الله لا يهدي القوم الظالمين} يعني أن الله لا يرشده ولا يوفق من كذب على الله وأضاف إليه ما لم يشرعه لعباده. قوله عز وجل: {قل لا أحد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه} اعلم أنه لما بين الله تعالى فساد طريقة أهل الجاهلية وما كانوا عليه من التضليل والتحريم من عند أنفسهم واتباع أهوائهم فيما أحلوه وحرموه من المطعومات أتبعه بالبيان الصحيح في ذلك وبيَّن أن التحريم والتحليل لا يكون إلا بوحي سماوي وشرع نبوي، فقال تعالى: قل أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الجاهلين الذي يحللون ويحرمون من عند أنفسهم لا أجد فيما أوحي إليّ، وقيل إنهم قالوا فما المحرم إذاً فنزل؟ {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً} يعني شيئاً محرماً على طاعم يطعمه يعني على آكل يأكله {إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً} يعني سائلاً مصبوباً {أو لحم خنزير فإنه رجس} أي نجس {أو فسقاً أهلّ لغير الله به} يعني ما ذبح على غير اسم الله تعالى فبين الله تعالى في هذه الآية أن التحريم والتحليل لا يكون إلا بوحي منه وأن المحرمات محصورة في الأربعة الأشياء المذكورة في هذه الآية وهي: الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما ذبح على غير اسم الله، وهذا مبالغة في أن التحريم لا يخرج عن هذه الأربعة وذلك أنه ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرمات إلا بالوحي وثبت أن الله تعالى نص في هذه الآية على هذه الأربعة الأشياء ولهذا اختلف العلماء في حكم هذه الآية فذهب بعضهم إلى ظاهرها وأنه لا يحرم شيء من سائر المطعومات والحيوان إلا ما ذكر في هذه الآية؛ ويروى ذلك عن ابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير وهو ظاهر مذهب مالك واحتجوا على ذلك بأن هذه الآية محكمة لأنها خبر والخبر لا يدخله النسخ واحتجوا بأن هذه الآية وإن كانت مكية لكن يعضدها آية مدنية وهي قوله تعالى في سورة البقرة: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلَّ به لغير الله}، وكلمة إنما تفيد الحصر فصارت هذه الآية المدنية مطابقة للآية المكية في الحكم، وذهب جمهور العلماء إلى أن هذا التحريم لا يختص بهذه الأشياء المنصوص عليها في هذه الآية فإن المحرم بنص الكتاب هو ما ذكر في هذه الآية. وقد حرمت السنة أشياء فوجب القول بها: منها تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ومخلب الطير. عن المقدام بن معديكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب. ولأبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعفيهم بمثل قراه» عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو معفو وتلا: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة} الآية أخرجه أبو داود (م) عن ابن عباس قال «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير» (م) عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية» (ق) عن جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل» وفي رواية: «أكلنا من خيبر الخيل وحمر الوحش» ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي عن جابر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الهر وأكل ثمنه» وقد استثنى الشارع من الميتة السمك والجراد ومن الدم الكبد والطحال وأباح أكل ذلك وقد تقدم دليله. والأصل في ذلك عند الشافعي أن كل ما لم يرد فيه نص بتحريم أو تحليل فما كان أمر الشرع بقتله كام ورد في الصحيح «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم وهي الحية والعقرب والفأرة والحدأة والكلب العقور» وروي عن سعد بن أبي وقاص «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر قتل الوزغ» أخرجه البخاري ومسلم، وسماه فويسقاً. وعن ابن عباس قال «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد» أخرجه أبو داود فهذا كله حرام لا يحل أكله وما سوى ذلك فالمرجع فيه إلى الأغلب من عادة العرب فما يستطيبه الأغلب منهم فهو حلال وما يستخبثه الأغلب منهم ولا يأكلونه فهو حرام لأن الله خاطبهم بقوله: {أحل لكم الطيبات} فما استطابوه فهو حلال فهذا تقرير ما يحل ويحرم من المطعومات. وأما الجواب عن هذه الآية الكريمة فمن وجوه: أحدها: أن يكون المعنى لا أجد محرماً مما أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب وغيرها إلا ما أوحي إليّ في هذه الآية. الوجه الثاني: أن يكون المراد وقت نزول هذه الآية لم يكن محرماً غير ما ذكر ونص عليه في هذه الآية ثم حرم بعد نزولها أشياء أخر. الوجه الثالث: يحتمل أن هذا اللفظ العام خصص بدليل آخر، وهو ما ورد في السنة. الوجه الرابع: أن ما ذكر في هذه الآية محرم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما ورد في السنة من المحرمات والله أعلم. بقي في الآية أحكام في قوله تعالى: {أو دماً مسفوحاً} وهو ما سال من الحيوان في حال الحياة أو عند الذبح فإن ذلك الدم حرام نجس وما سوى ذلك كالكبد والطحال فإنهما حلال لأنهما دمان جامدان. وقد ورد الحديث بإباحتهما وكذا ما اختلط باللحم من الدم لأنه غير سائل، قال عمران بن جرير: سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم وعن القدر يُرى فيها حمرة الدم فقال لا بأس بذلك وإنما نهي عن الدم المسفوح. وقال إبراهيم النخعي: لا بأس بالدم في عرق أو مخ إلا المسفوح، وقال عكرمة: لولا هذه الآية لتتبع المسلمون الدم من العروق ما تتبع اليهود. وقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} لما بين الله المحرمات في هذه الآية أباح أكلها عند الاضطرار من غير بغي ولا عدوان، وفي قوله: {فإن ربك غفور رحيم} دليل على الرخصة والإباحة عند الاضطرار.
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)} قوله تعالى: {وعلى الذين هادوا} يعني اليهود {حرمنا كل ذي ظفر} قال ابن عباس: هو البعير والنعامة ونحو ذلك من الدواب. وقيل كل ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطير مثل البعير والنعامة والإوز والبط. قال القتيبي هو كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب وسمي الحافر ظفراً على الاستعارة {ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما} يعني شحم الجوف وهي الثروب وشحم الكليتين {إلا ما حملت ظهورهما} يعني إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما من الشحم فإنه غير محرم عليها، وقال السدي وأبو صالح: الألية مما حملت ظهورهما وهذا القول مختص بالغنم لأن البقر ليس لها ألية {أو الحوايا} وهي المباعر، في قول ابن عباس وجمهور المفسرين واحدتها حاوية وحوية، وقيل: الحوايا المباعر والمصارين وهي الدوائر التي تكون في بطن الشاة والمعنى أن الشحم المتلصق بالمباعر والمصارين غير محرم على اليهود {أو ما اختلط بعظم} يعني من شحم الألية لأنه اختلط بالعصعص وكذا الشحم المختلط بالعظام التي تكون في الجنب والرأس والعين فكل هذا حلال على اليهود فحاصل هذا أن الذي حرم عيلها شحم الثرب وشحم الكلية وما عدا ذلك فهو حلال عليهم (ق). عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح بمكة «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: «لا هو حرام» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك «قاتل اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه» قوله: جملوه يعني أذابوه يقال أجملت الشحم وجملته إذا أذبته وجملته أكثر وأفصح. وقوله تعالى: {ذلك جزيناهم} أي ذلك التحريم جزيناهم عقوبة {ببغيهم} يعني بسبب بغيهم وظلمهم وهو قتل الأنبياء وأخذ الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل {وإنا لصادقون} يعني في الإخبار عن بغيهم وفي الإخبار عن تخصيصهم بهذا التحريم.
{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} {فإن كذبوك} يعني فإن كذبك اليهود يا محمد فيما أخبرناك أنا حرمنا عليهم وأحللنا لهم مما بينّاه في هذه الآية المتقدمة {فقل ربكم ذو رحمة واسعة} يعني بتأخير العقوبة عنكم فإن رحمته تسع المسيء والمحسن فلا يعجل بالعقوبة على من كفر به أو عصاه {ولا يرد بأسه} يعني ولا يرد عذابه ونقمته إذا جاء وقتهما {عن القوم المجرمين} لما لزمتهم الحجة وتيقنوا بطلان ما كانوا عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله أخبر الله تعالى عنهم بما سيقولونه فقال تعالى: {سيقول الذين أشركوا} يعني مشركي قريش والعرب {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} يعني من قبل، قال المفسرون: جعلوا قولهم لو شاء الله ما أشركنا حجة على إقامتهم على الكفر والشرك. وقالوا: إن الله قادر على أن يحول بيننا وبين ما نحن عليه حتى لا نفعله فلولا أنه رضي ما نحن عليه وأراده منا وأمرنا به لحالَ بيننا وبين ذلك {ولا حرمنا من شيء} يعني ما حرموه من البحائر والسوائب وغير ذلك، فقال الله عز وجل رداً وتكذيباً لهم {كذلك كذب الذين من قبلهم} يعني من كفار الأمم الخالية الذي كانوا قبل قومك كذبوا أنبياءهم وقالوا مثل قول هؤلاء {حتى ذاقوا بأسنا} يعني عذابنا. (فصل) استدل القدرية والمعتزلة بهذه الآية فقالوا: إن القوم لما قالوا لو شاء الله ما أشركنا كذبهم الله ورد عليهم بقوله {كذلك كذب الذين من قبلهم} وأيضاً فإن الله تعالى حكى عن هؤلاء الكفار صريح مذهب الجبرية وهو قولهم لو شاء الله منا أن لا نشرك لم نشرك ولمنعنا عن هذا الكفر وحيث لم يمنعنا عنه ثبت أنه مريد له وإذا أراده منا امتنع تركه منا وأجيب عن هذا بأن الله تعالى حكى عن هؤلاء الكفار أنهم قالوا لو شاء الله ما أشركنا ثم ذكر عقيبة كذلك كذب الذين من قبلهم وهذا التكذيب ليس هو في قولهم لو شاء الله ما أشركنا، بل ذلك القول حق وصدق ولكن الكذب في قولهم إن الله أمرنا به ورضي ما نحن عليه كما أخبر عنهم في سورة الأعراف {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} فرد الله تعالى عليهم بقوله {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} والدليل أن التكذيب في قولهم إن الله أمرنا بهذا ورضيه منا لا في قولهم لو شاء الله ما أشركنا قوله {كذلك كذب الذين من قبلهم} بالتشديد ولو كان خبراً من الله عن كذبهم في قولهم لو شاء الله ما أشركنا لقال كذلك كذب الذين من قبلهم بالتخفيف فكان ينسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب وقال الحسن بن الفضل: لو قالوا هذه المقالة تعظيماً لله وإجلالاً له ومعرفة بحقه وبما يقولون لما عابهم بذلك، ولكنهم قالوا هذه المقالة تكذيباً وجدلاً من غير معرفة بالله وبما يقولون. وقيل في معنى الآية: إنهم كانوا يقولون الحق بهذه الكلمة وهو قوله: {لو شاء الله ما أشركنا} إلا أنهم كانوا يعدونه عذراً لأنفسهم ويجعلونه حجة لهم في ترك الإيمان والرد عليهم في ذلك أن أمر الله بمعزل عن مشيئته وإرادته فإن الله تعالى مريد لجميع الكائنات غير آخر بجميع ما يريد، فعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته فإن مشيئته لا تكون عذراً لأحد عليه في فعله فهو تعالى يشاء الكفر من الكافر ولا يرضى به ولا يأمر به ومع هذا فيبعث الرسل إلى العبد ويأمر بالإيمان، وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع. فالحاصل أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يتمسكون بمشيئة الله تعالى في شركهم وكفرهم، فأخر الله تعالى أن هذا التمسك فاسد باطل فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة لله تعالى في كل الأمور دفع دعوة الأنبياء عليهم السلام والله أعلم. وقوله تعالى: {قل هل عندكم من علم} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين لو شاء الله ما أشركنا ولكنه رضي ما نحن عليه من الشرك هل عندكم يعني بدعواكم ما تدعون من علم يعني من حجة وكتاب يوجب اليقين من العلم {فتخرجوه لنا} يعني فتظهروا ذلك العلم لنا وتبينوه كما بينّا لكم خطأ قولكم وفعلكم وتناقض ذلك واستحالته في العقول {إن تتبعون إلا الظن} يعني فيما أنتم عليه من الشرك وتحريم ما لم يحرمه الله عليكم وتحسبون أنكم على حق وإنما هو باطل {وإن أنتم إلا تخرصون} يعني وما أنتم في ذلك كله إلا تكذبون وتقولون على الله الباطل.
{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} قوله تعالى: {قل فلله الحجة البالغة} يعني: قل يا محمد لهؤلاء المشركين حين عجزوا عن إظهار علم الله أو حجة لهم فللّه الحجة البالغة يعني التامة على خلقه بإنزال الكتاب وإرسال الرسل. قال الربيع بن أنس: لا حجة لأحد عصى الله أو أشرك به على الله ولكن لله الحجة البالغة على عباده {فلو شاء لهداكم أجمعين} يعني فلو شاء الله لوفقكم أجمعين للهداية ولكنه لم يشأ ذلك وفيه دليل على أنه تعالى لم يشأ إيمان الكافر ولو شاء لهداه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون {قل هلم شهداءكم الذين يشهدون} يعني هاتوا وادعوا شهداءكم. وهلم كلمة دعوة إلى الشيء يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والذكر والأنثى وفيها لغة أخرى يقال للواحد هلم وللاثنين هلما وللجمع هلموا للأنثى هلمي واللغة الأولى أفصح {إن الله حرم هذا} وهذا تنبيه من الله باستدعاء الشهود من الكافرين على تحريم ما حرموه على أنفسهم وقالوا إن الله أمرنا به ليظهر أن لا شاهد لهم على ذلك وإنما اختلقوه من عند أنفسهم {فإن شهدوا فلا تشهد معهم} وهذا تنبيه أيضاً على كونهم كاذبين في شهادتهم فلا تشهد أنت يا محمد معهم لأنهم في شهادتهم كاذبون {ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا} يعني إن وقع منهم شهادة فإنما هي باتباع الهوى فلا تتبع أنت يا محمد أهواءهم ولكن اتبع ما أوحي إليك من كتابي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه {والذين لا يؤمنون بالآخرة} أي ولا تتبع أهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة {وهم بربهم يعدلون} يعني يشركون. قوله عز وجل: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} لما بين الله تعالى فساد مقالة الكفار فيما زعموا أن الله أمرهم بتحريم ما حرموه على أنفسهم فكأنهم سألوا وقالوا: أي شيء حرم الله فأمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم تعالوا تعال من الخاص الذي صار عاماً وأصله أن يقوله من كان في مكان عالٍ لمن هو أسفل منه ثم كثر واتسع فيه حتى عمَّ. وقيل أصله أن تدعو الإنسان إلى مكان مرتفع وهو من العلو وهو ارتفاع المنزلة فكأنه دعاه إلى ما فيه رفعة وشرف ثم كثر في الاستعمال، والمعنى: تعالوا وهلموا أيها القوم أتل عليكم يعني أقرأ ما حرم ربكم عليكم يعني الذي حرم ربكم عليكم حقاً يقيناً لا شك فيه ولا ظناً ولا كذباً كما تزعمون أنتم بل هو وحي أوحاه الله إليّ {ألا تشركوا به شيئاً}. فإن قلت: ترك الإشراك واجب فما معنى قوله أن لا تشركوا به شيئاً لأنه كالتفصيل لما أجمله فيقوله حرم ربكم عليكم وذلك لا يجوز. قلت الجواب عنه من وجوه: الوجه الأول: أن يكون موضع أن رفع معناه هو أن لا تشركوا له. الوجه الثاني: أن يكون محل النصب، واختلفوا في وجه انتصابه فقيل معناه حرم عليكم أن تشركوا وتكون لا صلة. وقيل: إن حرف لا على أصلها ويكون المعنى: أتل عليكم تحريم الشرك أي لا تشركوا ويكون المعنى أوصيكم أن لا تشركوا لأن قوله وبالوالدين إحساناً محمول على: أوصيكم بالوالدين إحساناً. الوجه الثالث: أن يكون الكلام قد تم عند قوله حرم ربكم، ثم قال: عليكم أن لا تشركوا على الإغرار أو بمعنى فرض عليكم أن لا تشركوا به شيئاً ومعنى هذا الإشراك الذي حرمه الله ونهى عنه هو أن يجعل الله شريكه من خلقه أو يطيع مخلوقاً في معصية الخالق أو يريد بعبادته رياء وسمعة ومنه قوله: {ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} وقوله عز وجل: {وبالوالدين إحساناً} أي: وفرض عليكم ووصاكم بالوالدين إحساناً وإنما ثنى بالوصية بالإحسان إلى الوالدين لأن اعظم النعم على الإنسان نعمة الله لأنه هو الذي أخرجه من العدم إلى الوجود وخلقه وأوجده بعد أن لم يكن شيئاً ثم بعد نعمة الله الوالدين لأنهما السبب في وجود الإنسان ولما لهما عليه من حق التربية والشفقة والحفظ من المهالك في حال صغره {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} يعني من خوف الفقر، والإملاق: الإقتار. والمراد بالقتل، وأد البنات وهن أحياء فكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية فنهاهم الله تعالى عن ذلك وحرمه عليهم {نحن نرزقكم وإياهم} يعني لا تئدوا بناتكم خوف العيلة والفقر فإني رازقكم وإياهم لأن الله تعالى إذا تكفل برزق الوالد والولد وجب على الوالد القيام بحق الولد وتربيته والاتكال في أمر الرزق على الله عز وجل: {ولا تقربوا الفواحش} يعني الزنا {ما ظهر منها وما بطن} يعني علانيته وسره وكان أهل الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأساً في السر فحرم الله تعالى الزنا في السر والعلانية وقيل إن الأولى حمل لفظ الفواحش على العموم في جميع الفواحش المحرمات والمنهيات فيدخل فيه الزنا وغيره لأن المعنى الموجب لهذا النهي هو كونه فاحشة فحمل اللفظ على العموم أولى من تخصيصه بنوع من الفواحش، وأيضاً فإن السبب إذا كان خاصاً لا يمنع من حمل اللفظ على العموم وفي قوله ما ظهر منها وما بطن دقيقة وهي أن الإنسان إذا احترز عن المعاصي في الظاهر ولم يحترز منها في الباطن دل ذلك على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله وطاعته فيما أمرها به أو نهى عنه ولكن لأجل الخوف من رؤية الناس ومذمتهم ومن كان كذلك استحق العقاب ومن ترك المعصية ظاهراً وباطناً لأجل خوف الله وتعظيماً لأمره استوجب رضوان الله وثوابه {ولا تقتلوا النفس الي حرم الله إلا بالحق} حرم الله تعالى قتل النفس إلا بالحق وقتها من جملة الفواحش المتقدم ذكرها في قوله تعالى: {ولا تقربوا الفواحش} وإنما أفرد قتل النفس بالذكر تعظيماً لأمر القتل وإنه من أعظم الفواحش والكبائر، وقيل: إنما أفرده بالذكر لأنه تعالى أراد أن يستثني منه ولا يمكن ذلك الاستثناء من جملة الفواحش إلا بالإفراد فلذلك فقال: {لا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق} وهي التي أبيح قتلها من ردة أو قصاص أو زنا بعد إحصان وهو الذي يوجب الرجم. (ق) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة»
{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)} {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} يعني ولا تقربوا مال اليتيم إلا بما فيه صلاحه وتثميره وتحصيل الربح له. قال مجاهد: هو التجارة فيه وقال الضحاك: هو أن يسعى له فيه. ولا يأخذ من ربحه شيئاً هذا إذا كان القيم بالمال غنياً غير محتاج فلو كان الوصي فقيراً فله أن يأكل بالمعروف {حتى يبلغ أشده} يعني احفظوا مال اليتيم إلى أن يبلغ أشده فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله. فأما الأشد فهو استحكام قوة الشباب والسن حتى يتناهى في الشاب إلى حد الرجال. قال الشعبي ومالك: لأشد الحلم حين تكتب له الحسنات وتكتب عليه السيئات. وقال أبو العالية: حتى يعقل وتجتمع قوته. وقال الكلبي: الأشد هو ما بين ثمان عشرة سنة إلى ثلاثين سنة وقيل إلى أربعين إلى ستين سنة وقال الضحاك: الأشد عشرون سنة، وقال السدي: الأشد ثلاثون سنة وقال مجاهد: الأشد ثلاث وثلاثون سنة وهذه الأقوال التي نقلت عن المفسرين في هذه الآية إنما هي نهاية الأشد لا ابتداؤه. والمراد بالأشد في هذه الآية. هو ابتداء بلوغ الحلم مع إيناس الرشد وهذا هو المختار في تفسير هذه الآية. وقوله تعالى: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط} يعني بالعدل من غير زيادة ولا نقصان {لا نكلف نفساً إلا وسعها} يعني طاقتها وما يسعها في إيفاء الكيل والميزان وإتمامه. لم يكلف المعطي أن يعطي أكثر مما وجب عليه ولم يكلف صاحب الحق الرضا بأقل من حقه حتى لا تضيق نفسه عنه، بل أمر كل واحد بما يسعه مما لا حرج عليه فيه {وإذا قلتم فاعدلوا} يعني في الحكم والشهادة {ولو كان ذا قربى} يعني المحكوم عليه وكذا المشهود عليه، وقيل: إن الأمر بالعدل في القول هو أعم من الحكم والشهادة، بل يدخل فيه كل قول حتى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير زيادة فيه ولا نقصان وأداء الأمانة وغير ذلك من جميع الأقوال التي يعتمد فيها العدل والصدق {وبعهد الله أوفوا} يعني ما عهد إلى عباده ووصاهم به وأوجبه عليهم أو ما أوجبه الإنسان على نفسه كنذر ونحوه فيجب الوفاء به {ذلكم} يعني الذي ذكر فيه هذه الآية {وصاكم به} يعني بالعمل به {لعلكم تذكرون} يعني لعلكم تتعظون وتتذكرون فتأخذون ما أمرتكم به.
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)} قوله عز وجل {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} يعني وأن هذا الذي وصيتكم به وأمرتكم به في هاتين الآيتين هو صراطي وديني الذي ارتضيته لعبادي مستقيماً يعني قويماً لا اعوجاج فيه فاتبعوه ويعني فاعملوا به. وقيل: إن الله تعالى لما بين في الآيتين المتقدمين ما وصى به مفصلاً أجمله في هذه الآية إجمالاً يقتضي دخول جميع ما تقدم ذكره فيه ويدخل فيه أيضاً جميع أحكام الشريعة وكل ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام هو المنهج القويم والصراط المستقيم والدين الذي ارتضاه الله لعباده المؤمنين وأمرهم باتباع جملته وتفصيله {ولا تتبعوا السبل} يعني الطرق المختلفة والأهواء المضلة والبدع الرديئة وقيل السبل المختلفة مثل: اليهود والنصرانية وسائر الملل والأديان المخالفة لدين الإسلام {فتفرق بكم عن سبيله} يعني فتميل بكم هذه الطرق المختلفة المضلة عن دينه وطريقه الذي ارتضاه لعباده، روى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه وقرأ وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل الآية {ذلكم وصاكم به} يعني باتباع دينه وصراطه الذي لا اعوجاج فيه {لعلكم تتقون} يعني الطرق المختلفة والسبل المضلة. قال ابن عباس: هذه الآيات محكمات في جميع الكتب لم ينسخهن شيء وهن من محرمات على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار. وعن ابن مسعود قال: من سرَّه أن ينظر إلى الصحيفة التي عليها خاتم محمد صلى الله عليه وسلم فليقرأ هؤلاء الآيات {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} الآيات- إلى قوله- {لعلكم تتقون} أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب. قوله تعالى: {ثم آتينا موسى الكتاب} يعني التوراة. فإن قلت إتيان موسى الكتاب كان قبل نزول القرآن وحرف ثم للتعقيب فما معنى ذلك؟ قلت دخلت ثم لتأخير الخير لا لتأخير النزول والمعنى {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} وهو كذا وكذا إلى قوله تعالى لعلكم تتقون ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب وقيل إن المحرمات المذكورة في قوله تعالى: {قل تعالوا اتلُ ما حرم ربكم عليكم} محرمات على جميع الأمم وجميع الشرائع فتقدير الكلام: ذلك وصاكم به يا بني آدم قديماً وحديثاً ثم بعد ذلك آتينا موسى الكتاب يعني بعد إيجاب هذه المحرمات وقيل معناه {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} ثم قال بعد ذلك يا محمد إنا آتينا موسى الكتاب فحذف لفظة قل لدلالة الكلام عليها. وقوله تعالى: {تماماً على الذي أحسن} اختلف أهل التفسير فيه فقيل معناه تماماً على المحسنين من قومه فيكون الذي بمعنى أي تماماً على من أحسن من قومه لأنه كان منهم محسن ومسيء وعلى قراءة ابن مسعود تماماً على الذين أحسنوا، وقيل: معناه تماماً على كل من أحسن أي أتممنا فضيلة موسى على المحسنين وهم الأنبياء والمؤمنون أي أتممنا فضله عليهم بالكتاب، وقيل: الذي أحسن هو موسى فيكون الذي بمعنى ما أي على ما أحسن وتقديره وآتينا موسى الكتاب إتماماً للنعمة عليه لإحسانه في الطاعة والعبادة وتبليغ الرسالة وأداء الأمر. وقيل الإحسان بمعنى العلم وتقديره آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والحكمة زيادة له على ذلك وقيل معناه تماماً مني على إحساني إلى موسى {وتفصيلاً لكل شيء} يعني: وفيه بيان لكل شيء يحتاج إليه من شرائع الدين وأحكامه {وهدى} يعني: وفيه هدى من الضلالة {ورحمة} يعني: إنزاله عليهم رحمة مني عليهم {لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون} قل ابن عباس: لكي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب.
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)} قوله عز وجل: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} يعني: القرآن لأنه كثير الخير والنفع والبركة ولا يتطرق إليه نسخ {فاتبعوه} يعني: فاعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام {واتقوا} يعني مخالفته {لعلكم ترحمون} يعني: ليكن الغرض بالتقوى رحمة الله وقيل معناه لكي ترحموا على جزاء التقوى {أن تقولوا} يعني لئلا تقولوا وقيل معناه كراهية أن تقولوا يعني أنزلنا إليكم الكتاب كراهية أن تقولوا {إنما أنزل الكتاب} وقيل: يجوز أن تكون أن متعلقة بما قبلها فيكون المعنى واتقوا أن تقولوا وهذا خطاب لأهل مكة والمعنى واتقوا يا أهل مكة أن تقولوا إنما أنزل الكتاب والكتاب اسم جنس لأن المراد به التوراة والإنجيل {على طائفتين من قبلنا} يعني اليهود والنصارى {وإن كنا} أي: وقد كنا وقيل وإنه كنا {عن دراستهم} يعني قراءتهم {لغافلين} يعني: لا علم لنا بما فيها لأنها ليست بلغتنا. والمراد بهذه الآية إثبات الحجة على أهل مكة وقطع عذرهم بإنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بلغتهم والمعنى: وأنزلنا القرآن بلغتهم لئلا يقولوا يوم القيامة إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا بلسانهم ولغتهم فلم نعرف ما فيهما فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم بلغتهم {أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} وذلك أن جماعة من الكفار قالوا لو أنزل علينا ما أنزله على اليهود والنصارى لكنّا خيراً منهم وأهدى وإنما قالوا ذلك لاعتمادهم على صحة عقولهم وجودة فطنهم وذهنهم قال الله عز وجل: {فقد جاءكم بينة من ربكم} وهو رحمة ونعمة أنعم الله بها عليكم {فمن أظلم} أي لا أحد أظلم أو أكفر {ممن كذب بآيات الله وصدف عنها} يعني وأعرض عنها {سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب} يعني أسوأ العذاب وأشده {بما كانوا يصدفون} أي ذلك العذاب جزاؤهم بسبب إعراضهم وتكذيبهم بآيات الله.
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)} قوله تعالى: {هل ينظرون} يعني: هل ينتظر هؤلاء بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن وصدهم عن آيات الله وهو استفهام معناه النفي وتقديره الآية أنهم لا يؤمنون بك إلا إذا جاءتهم إحدى هذه الأمور الثلاث فإذا جاءتهم إحداها آمنوا وذلك حين لا ينفعهم إيمانهم {إلا أن تأتيهم الملائكة} يعني: لقبض أرواحهم وقيل أن تأتيهم بالعذاب {أو يأتي ربك} يعني: للحكم وفصل القضاء بين الخلق يوم القيمة وقد تقدم الكلام في معنى الآية في سورة البقرة عند قوله {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} بما فيه كفاية وإن المجيء والذهاب على الله لمحال فيجب إمرارها بلا تكييف {أو يأتي بعض آيات ربك} قال جمهور المفسرين: هو طلوع الشمس من مغربها، ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض» أخرجه مسلم. عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله «أو يأتي بعض آيات ربك» قال: «طلوع الشمس من مغربها» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب (م) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه» عن صفوان بن عسال المراد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «باب من قبل المغرب مسيرة عرضه أو قال يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة خلقه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض مفتوحاً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها» وفي رواية «فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً» (م) عن حذيفة بن أسد الغفاري قال اطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال ما تذكرون قلنا الساعة فقال «إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر: الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم وثلاث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تطرد الناس إلى محشرهم» (م) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «بادروا بالأعمال قبل ست: طلوع الشمس من مغربها والدخان والدجال والدابة وخويصة أحدكم وأمر العامة» (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريباً» وروى الطبري بسنده عن عبد الله بن مسعود في تفسير هذه الآية قال: «تصبحون والشمس والقمر من ها هنا من قبل المغرب كالبعيرين القرينين» زاد في رواية عنه «فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً» وبسنده عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً «أتدرون أين تذهب هذه الشمس قالوا الله ورسوله أعلم قال إنها تذهب إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي من حيث جئتِ فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي فارجعي من حيث جئت فتصبح طالعة من مطلعها لا تنكر الناس منها شيئاً حتى تنتهي فتخر ساجدة في مسقترها تحت العرش فيقال لها اطلعي من مغربك فتصبح طالعة من مغربها» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتدرون أي يوم ذلك أقالوا: الله ورسوله أعلم. قال ذلك يوم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً» وبسنده عن أبي ذر قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم حمار «فنظر إلى الشمس حين غربت فقال» إنها تغرب في عين حمئة تنطلق حتى تخر لربها ساجدة تحت العرش حتى يأذن لها فإذا أراد أن يطلعها من مغربها حبسها فتقول يا رب إن مسيري بعيد فيقول لها اطلعي من حيث غربت فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل «وروي بسنده عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية من العشيات فقال لهم» عباد الله توبوا إلى الله قبل أن يأتيكم بعذاب لإنكم توشكون أن تروا الشمس من قبل المغرب فإذا فعلت حبست التوبة وطوي إلى العمل «فقال الناس: هل لذلك من آية يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» إن آية تلك الليلة أن تطول كقدر ثلاث ليال فيستيقظ الذين يخشون ربهم فيصلون له ثم يقضون صلاتهم والليل لم ينقص ثم يأتون مضاجعهم فينامون حتى إذا استيقظوا والليل مكانه فإذا رأوا ذلك خافوا أن يكون ذلك بين يدي أمر عظيم فإذا أصبحوا فطال عليهم رأت أعينهم طلوع الشمس فبينما هم ينظرونها إذ طلعت عليهم من قبل المغرب فإذا فعلت ذلك لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل « قال ابن عباس: لا ينفع مشركاً إيمانه عند الآيات وينفع أهل الإيمان عند الآيات إن كانوا اكتسبوا خيراً قبل ذلك. وقال ابن الجوزي قيل إن الحكمة في طلوع الشمس من مغربها أن الملحدة المنجمين زعموا أن ذلك لا يكون فيريهم الله قدرته فيطلعها من المغرب كما أطلعها من المشرق فيتحقق عجزهم وقيل بل ذلك بعض الآيات الثلاثة: الدابة ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها. يروى عن ابن مسعود أنه قال: التوبة معروضة على ابن آدم إن قبلها ما لم تخرج إحدى ثلاث: الدابة وطلوع الشمس من مغربها أو يأجوج ومأجوج. ويروى عن عائشة قالت: إذا خرج أول الآيات طرحت التوبة وحبست الحفظة وشهدت الأجساد على الأعمال. ويروى عن أبي هريرة في قوله تعالى أو يأتي بعض الآيات ربك قال هي مجموع الآيات الثلاث: طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض ورواه مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً طلوع الشمس من مغربها والدخال ودابة الأرض» وأصح الأقوال في ذلك ما تظاهرت عليه الأحاديث الصحيحة وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طلوع الشمس من مغربها وقوله تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل} يعني لا ينفع من كان مشركاً إيمانه ولا تقبل توبة فاسق عند ظهور هذه الآية العظيمة التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة {أو كسبت في إيمانها خيراً} يعني أو عملت قبل ظهور هذه الآية خيراً من عمل صالح وتصديق. قال الضحاك: من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه قبِل ظهور هذه الآية خيراً من عمل صالح وتصديق. قال الضحاك: من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه قبِل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية كما قبل منه قبل ذلك فأما من آمن من شرك أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية فلا يقبل منه لأنها حالة اضطرار كما لو أرسل الله عذاباً على أمة فآمنوا وصدقوا فإنها لا ينفعهم إيمانهم ذلك لمعاينتهم الأهوال والشدائد التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة وقوله {قل انتظروا} يعني ما وعدتم به من مجيء الآية ففيه وعيد وتهديد {إنا منتظرون} يعني ما وعدكم ربكم من العذاب يوم القيامة أو قبله في الدنيا. قال بعض المفسرين: وهذا إنما ينتظره من تأخر في الوجود من المشركين والمكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الوقت والمراد بهذا أن المشركين إنما يمهلون قدر مدة الدنيا فإذا ماتوا أو ظهرت الآيات لم ينفعهم الإيمان وحلت بهم العقوبة اللازمة أبداً. وقيل إن قوله {قل انتظروا إنا منتظرون} المراد به الكف عن قتال الكفار فتكون الآية منسوخة بآية القتال وعلى القول الأول تكون الآية محكمة.
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)} قوله عز وجل: {إن الذين فرقوا} وقرئ فارقوا {دينهم وكانوا شيعاً} عين أحزاباً متفرقة في الصلاة ومعنى فرقوا دينهم أنهم لم يجتمعوا عليه وكانوا مختلفين فيه فمن قرأ وفرقوا دينهم يعني جعلوا دينهم وهو دين إبراهيم الحنيفية السهلة أدياناً مختلفة كاليهودية والنصرانية وعبادة الأصنام ونحو ذلك من الأديان المختلفة، ومن قرأ فارقوا دينهم قال: معناه باينوه وتركوه من المفارقة للشيء. وقيل: إن معنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد في الحقيقة وهو أن من فرق دينه فأمر ببعض وأنكر بعضاً فارق دينه في الحقيقة ثم اختلفوا في المعنى بهذه الآية، فقال الحسن: هم جميع المشركين لأن بعضهم عبدوا الأصنام وقالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله وبعضهم عبدوا الملائكة وقالوا إنهم بنات الله وبعضهم عبدوا الكواكب فكان هذا تفريق دينهم. وقال مجاهد: هم اليهود. وقال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك: هم اليهود والنصارى لأنهم فرقوا فكانوا فرقاً مختلفة. وقال أبو هريرة في هذه الآية هم أهل الضلالة من هذه الأمة وروى ذلك مراوعاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء وليسوا منك هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة» أسنده الطبري، فعلى هذا يكون المراد من هذه الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع المضلة. وروي عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً هم أصحاب البدع والأهواء من هذه الأمة» ذكره البغوي بغير سند عن العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل بوجهه علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودِّع فما تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليك عبد حبشي فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين؛ تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» أخرجه أبو داود والترمذي عن معاوية قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة» وهي الجماعة «زاد في رواية» وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله «أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال من كان على ما أنا عليه وأصحابي» أخرجه الترمذي. قال الخطابي في هذا الحديث دلالة على أن هذه الفرق غير خارجة من الملة والدين إذ جعلهم من أمته. وقوله تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلم بصاحبه، التجاري تفاعل من الجري وهو الوقوع في الأهواء الفاسدة والبدع المضلة تشبيهاً بجري الفرس والكلب. قال ابن مسعود «إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها» ورواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً. وقوله تعالى: {لست منهم في شيء} يعني: في قتال الكفار فعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية القتال وهذا على قول من يقول إن المراد من الآية اليهود والنصارى والكفار، ومن قال: المراد من الآية أهل الأهواء والبدع من هذه الأمة قال: معناه لست منهم في شيء أي أنت منهم برئ وهم منك برآء. تقول العرب إن فعلت كذا فلست منك ولست مني أي كل واحد منا برئ من صاحبه {إنما أمرهم إلى الله} يعني في الجزاء والمكافأة {ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} يعني إذا وردوا القيامة
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} يعني مثلها في مقابلتها واختلفوا في هذه الحسنة والسيئة على قولين. أحدهما: أن الحسنة قول لا إله لا الله والسيئة هي الشرك بالله، وأورد على هذا القول: إن كلمة التوحيد لا مثل لها حتى يجعل جزاء قائلها عشر أمثالها وأجيب عنه بأن جزاء الحسنة قدر معلوم عند الله فهل يجازى على قدر إيمان المؤمن بما يشاء من الجزاء وإنما قال عشر أمثالها للترغيب في الإيمان لا للتحديد وكذلك جزاء السيئة بمثلها من جنسها. والقول الثاني: إن اللفظ عام في كل حسنة يعملها العبد أو سيئة، وهذا أولى. لأن حمل اللفظ على العموم أولى قال بعضهم: التقدير بالعشرة ليس التحديد لأن الله يضاعف لمن يشاء في حسناته إلى سبعمائة ويعطي من يشاء بغير حساب وإعطاء الثواب لعامل الحسنة فضل من الله تعالى هذا مذهب أهل السنة وجزاء السيئة بمثلها عدل منه سبحانه وتعالى وهو قوله تعالى: {وهم لا يظلمون} يعني لا ينقص من ثواب الطائع ولا يزاد على عذاب العاصي (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله تعالى» (م) عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله تبارك وتعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد من جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة» (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يقول الله تبارك وتعالى وإذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها وإن ترك من أجلي فاكتبوها له حسنة وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة» لفظ البخاري وفي لفظ مسلم عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «قال الله تبارك وتعالى إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة فإنما تركها من أجلي» زاد الترمذي: من جاء بالحسنة فله عشرة أمثالها. قوله عز وجل: {قل} يعني: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك {إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم} يعني: قل لهم إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم وهو دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده المؤمنين {ديناً قيماً} يعني هداني صراطاً مستقيماً ديناً قيماً، وقيل: يحتمل أن يكون محمولاً على المعنى تقديره: وعرفني ديناً قيماً يعني ديناً مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا زيغ، وقيل: قيماً ثابتاً مقوماً لأمور معاشي ومعادي، وقيل: هو من قام وهو أبلغ من القائم {ملة إبراهيم} والمِلة بالكسر الدين والشريعة. يعني هداني وعرفني دين إبراهيم وشريعته {حنيفاً} الأصل في الحنيف الميل وهو ميل عن الضلالة إلى الاستقامة والعرب تسمي كل من اختتن أو حج حنيفاً تنبيهاً على أنه دين إبراهيم عليه السلام {وما كان من المشركين} يعني إبراهيم عليه السلام وفيه رد على كفار قريش لأنهم يزعمون أنهم على دين إبراهيم فأخبر الله تعالى أن إبراهيم لم يكن من المشركين وممن يعبد الأصنام {قل إن صلاتي} أي: قل يا محمد إن صلاتي {ونسكي} قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك والسدي: أراد بالنسك في هذا الموضع الذبيحة في الحج والعمرة، وقيل: النسك العبادة والناسك العابد. وقيل: المناسك أعمال الحج. وقيل: النسك كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من صلاة وحج وذبح وعبادة. ونقل الواحدي عن أبي الأعرابي قال: النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة وقيل للمتعبد ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث. وفي قوله إن صلاتي ونسكي دليل على أن جميع العبادات يؤديها العبد على الإخلاص لله ويؤكد هذا قوله لله رب العالمين لا شريك له وفيه دليل على أن جميع العبادات لا تؤدى إلا على وجه التمام والكمال لأن ما كان لله لا ينبغي أن يكون إلا كاملاً تاماً مع إخلاص العبادة له فما بهذه الصفة من العبادات كان مقبولاً {ومحياي ومماتي} أي حياتي وموتي بخلق الله وقضائه وقدره أي هو يحييني ويميتني وقيل معناه إن محياي بالعمل الصالح ومماتي إذا مت على الإيمان لله، وقيل: معناه إن طاعتي في حياتي لله وجزائي بعد مماتي من الله وحاصل هذا الكلام له أن الله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين أن صلاته ونسكه وسائر عباداته وحياته وموته كلها واقعة بخلق الله وقضائه وقدره وهو المراد بقوله {لله رب العالمين لا شريك له} يعني في العبادة والخلق والقضاء والقدر وسائر أفعاله لا يشاركه فيها أحد من خلقه {وبذلك أمرت} يعني: قل يا محمد وبهذا التوحيد أمرت {وأنا أول المسلمين} قال قتادة: يعني من هذه الأمة وقيل معناه وأنا أول المستسلمين لقضائه وقدره.
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)} قوله عز وجل: {قل أغير الله أبغي رباً} أي: قل يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك أغير الله أطلب سيداً أو إلهاً {وهو رب كل شيء} يعني وهو سيد كل شيء ومالكه لا يشاركه فيه أحد وذلك أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ارجع إلى ديننا. قال ابن عباس: كان الوليد بن الميغرة يقول اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم فقال الله عز وجل رداً عليه {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} يعني أن إثم الجاني عليه لا على غيره {ولا تزر وازرة وزر أخرى} يعني لا تؤاخَذ نفس آثمة بإثم أخرى ولا تحمل نفس حاملة حمل أخرى ولا يؤاخذ أحد بذنب آخر {ثم إلى ربكم مرجعكم} يعني يوم القيامة {فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} يعني في الدنيا من الأديان والملل. قوله تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} يعني: والله الذي جعلكم يا أمة محمد خلائف في الأرض فإن الله أهلك من كان قبلكم من الأمم الخالية واستخلفكم فجعلكم خلائف منهم في الأرض تخلفونهم فيها وتعمرونها بعدهم وذلك لأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الانبياء وهو آخرهم وأمته آخر الآمم {ورفع بعضكم فوق بعض درجات} يعني أنه تعالى خالف بين أحوال عباده فجعل بعضهم فوق بعض في الخلق والرزق والشرف والعقل والقوة والفضل فجعل منهم الحسن والقبيح والغني والفقير والشريف والوضيع والعالم والجاهل والقوي والضعيف وهذا التفاوت بين الخلق في الدرجات ليس لأجل العجز أو الجهل أو البخل فإن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفاته النقص وإنما هو لأجل الابتلاء والامتحان وهو قوله تعالى: {ليبلوكم في ما آتاكم} يعني يعاملكم معاملة المبتلي والمختبر وهو أعلم بأحوال عباده. والمعنى: يبتلي الغني بغناه والفقير بفقره والشريف بشرفه والوضيع بدناءته والعبد والحر وغيرهم من جميع أصناف خلقه ليظهر منكم ما يكون عليه الثواب والعقاب، لأن العبد إما أن يكون مقصراً فيما كلف به وإما أن يكون موفياً ما أمره به فإن كان مقصراً كان نصيبه التخويف والترغيب وهو قوله تعالى: {إن ربك سريع العقاب} يعني لأعدائه بإهلاكهم في الدنيا وإنما وصف العقاب بالسرعة لأن كل ما هو آت فهو قريب إن كان العبد موفياً حقوق الله تعالى فيما أمره به أو نهاه عنه كان نصيبه الترغيب والتشريف والتكريم وهو قوله تعالى: {وإنه لغفور} يعني لذنوب أوليائه وأهل طاعته {رحيم} يعني بجميع خلقه والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
بسِمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {المص (1)} قوله عز وجل {المص} قال ابن عباس: معناه أنا الله أفصل وعنه أنا الله أعلم وأفصل وعنه أن المص قسم أقسم الله به وهو اسم من أسماء الله تعالى، وقال قتادة: المص اسم من أسماء القرآن، وقال الحسن: هو اسم للسورة، وقال السدي: هو بعض اسمه تعالى المصور، وقال أبو العالية: الألف مفتاح اسمه الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد والصاد مقتاح صادق وصبور. وقيل: هي حروف مقطعة استأثر الله تعالى بعلمها وهي سره في كتابه العزيز، وقيل: هي حروف اسمه الأعظم وقيل هي حروف تحتوي معاني دل الله بها خلقه على مراده وقد تقدم بسط الكلام على معاني الحروف المقطعة أوائل السور في أول سورة البقرة.
{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} وقوله تعالى {كتاب أنزل إليك} يعني هذا كتاب أنزله الله إليك يا محمد وهو القرآن {فلا يكن في صدرك حرج منه} يعني: فلا يضيق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به إلى الناس {لتنذر به} يعني: أنزلت إليك الكتاب يا محمد لتنذر به من أمرتك بإنذاره {وذكرى للمؤمنين} يعني: ولتذكر وتعظ به المؤمنين وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم، تقديره: كتاب أنزلناه إليك لتنذر به وذكر للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه. قال ابن عباس: فلا تكن في شك منه لأن الشك لا يكون إلا من ضيق الصدر وقلة الاتساع لتوجيه ما حصل له. قوله تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} أي: قل يا محمد لقومك اتبعوا أيها الناس ما أنزل إليكم من ربكم يعني من القرآن الذي فيه الهدى والنور والبيان. قال الحسن: يا ابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم والله ما نزلت آية إلا ويجب أن تعلم فيما أنزلت وما معناها، وبنحو هذا قال الزجاج: أي اتبعوا القرآن وما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه مما أنزل لقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ومعنى الآية أن الله تعالى لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإنذار في قوله لتنذر به كان معنى الكلام أنذر القوم {وقل لهم اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والشرك، وقيل: معناه لتنذر به وتذكر به المؤمنين فتقول لهم {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم}، وقيل: هو خطاب للكفار أي اتبعوا أيها المشركون ما أنزل إليكم من ربكم واتركوا ما أنتم عيله من الكفر والشرك ويدل عليه قوله تعالى: {ولا تتبعوا من دونه أولياء} يعني ولا تتخذوا الذين يدعونكم إلى الكفر والشرك فتتبعوهم. والمعنى: ولا تتولوا من دونه شياطين الإنس والجن فيأمروكم بعبادة الأصنام واتباع البدع والأهواء الفاسدة {قليلاً ما تذكرون} يعني ما تتعظون إلا قليلاً. قوله تعالى: {وكم من قرية أهلكناها} لما أمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإنذار والإبلاغ، وأمر أمته باتباع ما أنزله إليهم حذرهم نقمته وبأسه إن لم يتبعوا ما أمروا به فذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عن أمره من الوعيد فقال تعالى: {وكم من قرية أهلكناها}، قيل: فيه حذف تقديره وكم من أهل قرية لأن المقصود بالإهلاك أهل القرية لا القرية، وقيل: ليس فيه حذف لأن إهلاك القرية إهلاك لأهلها {فجاءها بأسنا} يعني عذابنا. فإن قلت مجيء البأس وهو العذاب إنما يكون قبل الإهلاك فكيف قال أهلكناها فجاءها بأسنا؟ قلت: معناه وكم من قرية حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا. وقال الفراء: الهلاك والبأس قد يقعان معاً كما يقال أعطيتني فأحسنت إليّ فلم يكن الإحسان قبل الإعطاء ولا بعده وإنما وقعا معاً. وقال غيره: لا فرق بين قولك أعطيتني فأحسنت إليّ أو أحسنت إليّ فأعطيتني فيكون أحدهما بدلاً من الآخر {بياتاً} يعني فجاءها عذابنا ليلاً قبل أن يصبحوا {أو هم قائلون} من القيلولة وهي نوم نصف النهار أو استراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم والمعنى فجاءها بأسنا غفلة وهم غير متوقعين له ليلاً وهم نائمون أو نهاراً وهم قائلون وقت الظهيرة وكل ذلك وقت الغفلة. ومقصود الآية أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم منغير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب وفيه وعيد وتخويف للكفار كأنه قيل لهم لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة فإن عذاب الله إذا نزل نزل دفعة واحدة {فما كان دعواهم} يعني فما كان دعاء أهل القرية التي جاءها بأسنا والدعوى تكون بمعنى الادعاء وبمعنى الدعاء، قال سيبويه: تقول العرب اللهم أشركنا في صالح دعوى المؤمنين ومنه قوله تعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللهم} {أذ جاءهم بأسنا} يعني عذابنا {إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين} يعني أنهم لم يقدروا على رد العذاب عنهم وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالجناية وذلك حين لا ينفع الاعتراف {فلنسألن الذين أرسل إليهم} يعني: نسأل الأمم الذين أرسلنا إليهم الرسل ماذا عملتم فيما جاءتكم به الرسل {ولنسألن المرسلين} يعني ولنسألن الرسل الذي أرسلناهم إلى الأمم هل بلغتم رسالاتنا وأديتم إلى الأمم ما أُمرتم بتأديته إليهم أم قصرتم في ذلك. قال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى هذه الآية: يسأل الله تعالى الناس عما أجابوا به المرسلين ويسأل المرسلين عما بلغوا وعنه أنه قال يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون. وقال السدي: يسأل الأمم ماذا عملوا فيما جاءت به الرسل ويسأل الرسل هل بلَّغوا ما أرسلوا به. فإن قلت: قد أخبر عنهم في الآية الأولى بأنهم اعترفوا على أنفسهم بالظلم في قوله إنا كنا ظالمين فيما فائدة هذا السؤال مع اعترافهم على أنفسهم بذلك؟ قلت: لما اعترفوا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين سئلوا بعد ذلك عن سبب هذا الظلم والتقصير والمقصود من هذا التقريع والتوبيخ للكفار. فإن قلت: فما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنهم قد بلغوا رسالات ربهم إلى من أرسلنا إليهم من الأمم؟ قلت: إذا كان يوم القيامة أنكر الكفار تبليغ الرسالة من الرسل فقالوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فكان مسألة الرسل على وجه الاستشهاد بهم على من أرسلوا إليهم من الأمم أنهم قد بلغوا رسالات ربهم إلى من أرسلوا إليه من الأمم فتكون هذه المسألة كالتقريع والتوبيخ للكفار أيضاً لأنهم أنكروا تبليغ الرسل فيزداد بذلك خزيهم وهوانهم وعذابهم.
{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)} وقوله تعالى: {فلنقصن عليهم بعلم} يعني: فلنخبرن الرسل ومن أرسلوا إليهم بعلم ويقين بما عملوا في الدنيا {وما كنا غائبين} يعني عنهم وعن أفعالهم وعن الرسل فيما بلغوا وعن الأمم فيما أجابوا. فإن قلت كيف الجمع بين قوله تعالى: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} وبين قوله {فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} وإذا كان عالماً فما فائدة هذا السؤال؟ قلت: فائدة سؤال الأمم والرسل مع علمه سبحانه وتعالى بجميع المعلومات، التقريع، والتوبيخ للكفار لأأنهم إذ أقروا على أنفسهم كان أبلغ في المقصود، فأما سؤال الاسترشاد والاستثبات، فهو منفي عن الله عز وجل، لأنه عالم بجميع الأشياء قبل كونها وفي حال كونها وبعد كونها، فهو العالم بالكليات، والجزئيات، وعلمه بظاهر الأشياء كعلمه بباطنها. قوله تعالى: {والوزن يومئذ الحق} يعني والوزن يوم سؤال الأمم والرسل وهو يوم القيامة العدل، وقال مجاهد: المراد بالوزن هنا القضاء، ومعنى الحق العدل. وذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بالوزن وزن الأعمال بالميزان وذلك أن الله عز وجل ينصب ميزاناً له لسان وكفتان كل كفة ما بين المشرق والمغرب، قال ابن الجوزي: جاء في الحديث «أن داود عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يريه الميزان فأراه إياه فقال إليه من يقدر أن يملأ كفتيه حسنات فقال يا داود إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة» وقال حذيفة: جبريل صاحب الميزان يوم القيامة فيقول له ربه عز وجل بينهم ورد من بعضهم على بعض وليس ثم ذهب ولا فضة فيرد على المظلوم من الظلم ما وجد له من حسنة لإن لم يكن له حسنة أخذ من سيئات المظلوم فيرد على سيئات الظالم فيرجع الرجل وعليه مثل الجبل. فإن قلت: أليس الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد فما الحكمة في وزنها؟ قلت: فيه حكم منها إظهار العدل، وأن الله عز وجل لا يظلم عباده، ومنها امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى ومنها تعريف العباد ما لهم من خير وشر وحسنة وسيئة ومنها إظهار علامة السعادة والشقاوة ونظيره أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ ثم في صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى، ثم اختلف العلماء في كيفية الوزن فقال بعضهم: توزن صحائف الأعمال المكتوبة فيها الحسنات والسيئات ويدل على ذلك حديث البطاقة وهو ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله عز وجل سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول له أتنكر من هذا شيئاً أظلمتك كتبتي الحافظون فيقول لا يا رب فيقول أفلك عذر فيقول لا يا رب فيقول الله تبارك وتعالى بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج الله له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فيقول أحضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال فإنه لا ظلم عليك اليوم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يقل مع اسم الله شيء» أخرجه الترمذي وأحمد بن حنبل. وقال ابن عباس: يؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان فعلى قول ابن عباس: أن الأعمال تتصور صوراً وتوضع تلك الصور في المزان ويخلق الله في تلك الصور ثقلاً وخفة. ونقل البغوي عن بعضهم أنها توزن الأشخاص واستدل لذلك بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله تعالى جناح بعوضة» أخرجاه في الصحيحين وهذا الحديث ليس فيه دليل على ما ذكر من وزن الأشخاص في المزان لأن المراد بقوله لا يزن عند الله جناح بعوضة مقداره وحرمته لا وزن جسده ولحمه والصحيح قول من قال إن صحائف الأعمال توزن أو نفس الأعمال تتجسد وتوزن والله أعلم بحقيقة ذلك. وقوله تعالى: {فمن ثقلت موازينه} جمع ميزان، وأورد على هذا أنه ميزان واحد فما وجه الجمع وأجيب عنه بأن العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد، وقيل: إنه ينصب لكل عبد ميزان، وقيل: إنما جمعه لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان ولا يتم الوزن إلا باجتماع ذلك كله وقيل هو جمع موزون يعني من رجحت أعماله بالحسنة الموزونة التي لها وزن وقدر {فأولئك هم المفلحون} يعني: هم الناجون غداً والفائزون بثواب الله وجزائه {ومن خفَّت موازينه} يعني موازين أعماله وهم الكفار بدليل قوله تعالى: {فأولئك الذين خسروا أنفسهم} يعني غبنوا أنفسهم حظوظها من جزيل ثواب الله وكرامته {بما كانوا بآياتنا يظلمون} يعني سبب ذلك الخسران أنهم كانوا بحجج الله وأدلة توحيده يجحدون ولا يقرّون بها. روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه حين حضره الموت قال في وصيته لعمر بن الخطاب: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم وحق لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً، وإنما خفَّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم وحق لميزان يوضع فيه الباطل غداً أن يكون خفيفاً.
|